عام ١٩٨١، قُتلت زوجة الشاعر السوري الكبير نزار قباني العراقيّة بلقيس الراوي، أثناء تفجيرٍ مروّعٍ استهدف السفارة العراقيّة في بيروت، نفّذه حزب الدعوة العراقي.
نزار الذي ربحَ قلوب الملايين، خسرَ قلبه مع رحيل امرأة حياته، عندما قرّر حزبٌ تمرّد على وطنه وأعلن ولاءً لدولةٍ عادته، قتْلَها كما العشرات في التفجير، كما الملايين من العراقيين بعد الـ٢٠٠٣.
أكتبُ هذا المقال بعد مرور أكثر من ٤٠ عامًا على وقوع هذه المأساة الإنسانيّة، قبل ١١ عامًا من ولادتي.
أكتبُ وجعًا أتصوّره خارقًا في وجدان نزار، الذي غزا وجدننا بأبياته الشعريّة الراسخة، التي لم يُرمِها الزمن في سلّته، بل سيخلّدها حتّى آخر أنفاسه.
لم أشهدْ تلك الحقبة، بل سمعتُ عنها.
كيف أستعجب قسوةَ المجرمين ومنهم لبنانيين، لم يأبهوا قتل العشرات من أشقائهم، لمجرد أن العراقَ آنذاك قرر الدفاع عن البوابة الشرقيّة للعرب، وردع الفرس وأطماعهم التوسعيّة؟!
كيف أستعجب إنحلال هؤلاء بالمفهوميْن الأخلاقي والوطني، يجلّلون رموزًا غير عربيّة، ويحملون الأسلحة موجهين إياها إلى صدور أبطال الجيش العراقي؟!
كثيرون قد لا يصدقون ما أدوّنه الآن، لكنّ المنتمين لحزب الدعوة، الذي أعدم الرئيس الراحل صدام حسين مؤسّسه بسبب خيانته لوطنه، حاربوا العراقيين وقتلوا أفراد جيشهم وقصفوا منازلهم وشرّدوا أطفالهم!
تخيّلتهم يحملون جنسيةً ويقفون مع من يعتدي عليها!
تخيّلتهم يقفون في صفوف العدو مبتهجين كلّما قتلوا فردًا من أسرتهم، أو جارًا رافق سيّر حياتهم، أو صديقًا ظنّوه وفيًا بما يكفي، لنيل لقب الصديق!
كم احتقرت مخيّلتي لأنها استضافتهم ولو عبر استعارة مشاعريّة!
حتّى الأوغاد لا يحاربون أوطانهم، حتّى ولو كان حاكمها أسوأ شياطين الأرض!
نحنُ في لبنان نخسر وطننا لأجل حكامٍ فاسدين، لكنّنا نرفض التخلّي عن أرضه، ورغم وهننا الجسدي، إلا أنّنا مستعدون لمحاربة أي معتدٍ، لأجل آخر ذرة تراب فيه!
فكيف إن كان حاكمنا صدام الذي عاش العراق وشعبه في عهده أجمل فترات العمر: لا فساد، لا زبائنية، لا طائفية، لا تبعية خارجية.
إقرأ: العراقيون يطالبون بابنة صدام حسين رئيسةً لهذه الأسباب! – فيديو
آنذاك وحده العراق كان في شرايين القلب والعقل يسيرُ!
أما اليوم (وفي عهد حريّته)، نسمعُ أناشيد أوطان أخرى على أرضه التي أعاثها الفساد!
عراقٌ ما بعد الاحتلال الأمريكي، حكمه حزب الدعوة نفسه، فاستشرى فيه الفساد، وأصبحت الزبائنية منهاجًا لحكمه، والتبعية الخارجية طقوسًا دينية يُخوّن ويُرجم من يرفضها، غير وفاة ملايين العراقيين جوعًا وقهرًا وقتلًا وسرقةً.
حزبٌ تشاركه أحزاب أخرى بفعل كلّ هذا، كلّها زعمت إن النظام العراقي السابق اضطهد حرياتها، فإذ بنا نكشف إنه اضطهد خياناتها!
تحت نعليْه، عاقبَ صدام الخائنين، وبمنطق القسوة رفضَ تبرير الولاء الخارجي تحت أي شعارٍ زائف!
عقابٌ استحقه هؤلاء، فردوه انتقامًا بالعراقيين وأرواحهم ودمائهم وأملاكهم.
ومن يفعل كلّ هذا ليس غريبًا عليه أن يقتل بلقيس، معشوقة قلب نزار!
بعدما دمّروا العراق الحضارة والفنون والأدب والشعر والمتاحف والآثار والعلوم..
بعدما دمّروا العراق الإنسان والحجر..
هل نستعجب اغتيالهم حبيبة أكبر شعراء العصر؟
بل أن تُقتل على أياديهم، يعني أن تصبح شهيدةً تاريخيّة ننعيها مع نزار، حبًّا، كلّ يوم، وكلّ لحظة..
عبدالله بعلبكي – بيروت