صفعتني الحياة مرتيْن: مرّة عندما خسرتُ أبي في سنّ التاسعة، ومرّة عندما فقدتُ الذي نال مكانته، الجد الذي لعب دوريْن للحياة فأصبح لي الحياة بأسرها، ولم أتوقّع بعد أن أُصفع لشدّة ضراوة هاذيْن الوجعيْن.
كلّ ضربات الحياة الأخرى تحوّلت كنسمةِ هواءٍ تلوح على خدي، لذا أصبحتُ أقوى في مواجهة كلّ شيء، وأضعف عندما أواجه ذاتي وهاتيْن الخسارتيْن المريرتيْن.
إلا أنّ حضرتُ أمس مراسم عزاء ودفن الفقيد جورج_الراسي، كنتُ واثقًا آنذاك أنّ مشاهد الألم لن تهزّ كياني، بعدما اُهتز مرتيْن أمام عاصفتيْن كانتا أشبه بإعصاريْن ساحقيْن.
إقرأ: صدمة – وفاة الفنان اللبناني جورج الراسي – صور
ما نتوقعه دون دراسة، بناءً عمّا تريده العاطفة، غالبًا لا يتحقّق.
تجاهلتُ هذا الجدال الفلسفي، وذهبتُ نحو لنادين الراسي لأروي لها عن بريدي الخاص وآلاف الرسائل التي طرقتْ بابي الإلكترونيّ، وأصوات لأناس مفجوعة لا يعرفون ما يقولون، وحّدتْ صفوفهم المتفرّقة طاقات الحبّ، ومارستْ ضغطًا شديدًا عليهم، بعدما أرادتْ الخروج والسفر البعيد نحو روح جورج ونحو نادين وبقيّة أفراد أسرته ومحبيه.
ذهبتُ لأقول هذا لنادين المفجوعة، الضاحكة والباكية، الواقفة والجالسة، المبتسمة والمهزومة، الصارخة والصامتة.. في حضرةٍ الوجع قلتُ لها بعدما اقتربتُ منها متردّدًا وجانبي زميلتي سارة العسراوي: (هذا عريسنا كلّنا، ونريد أنّ نزفّه سويًا اليوم).
إقرأ: نادين الراسي هكذا ودّعت شقيقها جورج الراسي بالرقص والنحيب – خاص
عندها أدركتُ أنّني تعرّضتُ لصفعةٍ ثالثة، دون أنّ أتنبّه لها..
أُنشأتْ هذه الصفعة على ساعات، على مراحل عدّة، وعلى مشاهد أذكرها وأنساها.. كان الوجع تصاعديًا، وهنا عرفتُ أنّ جورج ليس إنسانًا عاديًا، وأنّني هناك في مستيتا في جبيل، أودّع حالة إنسانيّة ووجدانيّة وفنيّة مُختلفة.
لم يحظَ جورج بهذا التعاطف الشعبيّ الهائل، لأنّه فنان، ولا لأنه شقيق نادين_الراسي، كما كان يردّد بتعاقبٍ.
ثمّة فنانون نمرُّ على أخبار رحيلهم بلمسة أصبع سريعة، بنيّة الإطلاع على عناوين أكثر تشويقًا..
حتّى في الموت، نحن لا نقرأ العناوين والنعوات بنفس الشغفِ ولا بالاهتمام ذاته!
جورج كان وطنًا قُتل دون أنّ يُسأل، شُلّحت روحه منه دون استئذان..
جورج كان وطني المُعتدى عليه: في حقّه، وفي حياته، وفي وجوده.
جورج لبنان الذي سرقوه وشوّهوه وحطّموه وأذّلوه وفجّروه.
جورج لبنان الذي يخسرُ طاقاته الفكريّة، ويفقد شبابه على طرقاته، وبين أحيائه، وحتّى من داخل المنازل.
جورج شهداء تفجير مرفأ بيروت وغرق زورق طرابلس..
جورج لبنان الذي يؤلمنا لأنّنا نشهد على رحيله مكتوفي الأيدي، وكأنّنا مكبّلون أمام مصيرٍ لا نتوق إليه.
جورج لبنان المظلوم الذي يعرفُ ظالمه، القتيل الذي يُدرك قاتله، الضحية التي تيقنُ مجرمها.
جورج لبنان الفم المُغلق بجبروتِ الطغاة، المضطهد حتّى في نداء حقّ العدالة عند موته!
جورج لبنان الذي نحلمُ أنّ يكون، كما يستحقُ أنّ يكون.
لأنّه نسخةٌ مختصرةٌ عن هذا الوطن العظيم، كان جورج الأجمل في زفافه، والأشهر بين عرسان الكون!
الصفعة الثالثة آلمتني لكنّها أنذرتني:
ودّعوا من تحبّون، فنحنُ نحيا الآن على مساحات الموت الواسعة..
حتّى يقرّر الشعب أنّ يعيشَ!
ولأنّني موكّلٌ بمسؤوليةٍ حازمة أمام القراء، أطرحُ على نادين الراسي السؤال الأخير: (الكلّ يقول أنا جورج الراسي.. أتقبلي بكلّ هؤلاء أخوةً لكِ بعد اليوم؟).
عبدالله بعلبكي – بيروت