جمعت ثورة ١٧ تشرين أطياف الشعب اللبناني بكافة معتقدات أبنائه وانتماءاتهم وميولهم الفكرية والدينية ضد الفساد المتفشي في سلطةٍ مريضةٍ يحكمها أمراء الحرب ومجموعة من جشعي النفوذ والمال الذين رفعوا شعارات مكافحة الفساد وعندما وصلوا إلى مناصبهم، باتوا يفسدون أكثر من الذين سبقوهم.
جوليا بطرس التي لطالما غنت الثورة وصرخت للحق وهزت بأوتارها الصوتية مشاعر الملايين الذين تفاعلوا معها ومع القضايا الوطنية الإنسانية والاجتماعية التي قدمتها في إصداراتها المتعددة، صمتت ولم تطلق موقفًا شجاعًا بل تجاهلت تمامًا ما يحدث في وطنها وأكملت حياتها تسافر وتتبضع وترتدي أغلى الماركات في الوقت الذي يعاني الآلاف من أبناء شعبها من الفقر المدقع.
جوليا اختارت كفة زوجها وزير الدفاع المخلوع إلياس بو صعب على كفة وطنها، وكان بإمكانها أن تكون عظيمة في نفسها ومواقفها كما اعتدنا عليها في أغنياتها وتطلق آراء وطنية صارمة داعمة لشعبها المضطهد كما فعلت ابنة رئيس الجمهورية ميشال عون وزوجة العميد شامل روكز كلودين عون التي لم تتخلَ عن والدها لكنها أيدت المطالب الشعبية ونقدت السلطة الفاسدة وهاجمتها دون رحمة، فهل موقفها كان ليحرجها أكثر من كلودين التي لم تتخاذل أمام أوجاع الناس حتى لو كانت الضريبة مواجهة والدها في الكفة المقابلة؟
صاحبة (وين الملايين) لم يعد يهمها إلا ملايين زوجها الثري وصفقاته ومحاصصات تياره مع الأحزاب الفاسدة والتي أُنتج عنها مؤخرًا تشكيل حكومة حسان دياب التي أبعد ما أن تكون حكومةً للاختصاصيين بل ضمت بعض المستشارين وأصدقاء الساسة وخدامهم تحت أقنعة مزيفة.
لو أن جوليا أكملت بصمتها وتخاذلها، لمَ كنا لنحاسب زوجة أضعف من أن تواجه زوجًا يرى في السياسة مصدرًا للرزق كغيره، وحرمة أقل من أن تتخلى عن نفوذه وأمواله ورفاهيتها معه، فتخطت كلّ المعايير عندما نشرت بعد دقائق من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب صفقة القرن ومنح من خلالها الشرعية للصهاينة لاحتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية، صورةً للعلم الفلسطيني وكتبت تناصر فلسطين بعد غيبوبتها عن لبنان، وحتّى لو مات جوعًا ومذلولًا عند أقدام زوجها وغيره من ساسة هذا الوطن الموجوع: (بيتي هنا.. أرضي هنا.. البحر السهل النهر لنا، القدس عاصمة فلسطين الأبدية).
الفنانة (اللبنانية) لم يحرّك مشاعرها آلاف الفقراء والمظلومين والذين اعتدت عليهم القوى الأمنية، وتظاهروا تحت المطر وواجهوا خراطيم المياه والقنابل المسيّلة للدموع ولا مشهد الأب الذي وضع ابنه أمامه أمام العنصر الأمني بعدما نخر وجعه انسانيته وما عاد يشعر أنه أبٌ في وطنٍ لم يكن يومًا وطنًا حقيقيًا لأبٍ أو ابنٍ.
صاحبة (أنا بتنفس حرية) لم تتحرك إنسانيتها بعدما رأت وشهِدت على كل أشكال التخوين تُشن ضد أخوتها اللبنانيين المتظاهرين العُزل من أحزاب السلطة ومناصريها، ولا الآلاف الذين خسروا عملهم وحوصرت ودائعهم في المصارف، ولا المرأة التي صرخت وضُربت في الشارع، ولا الرجل الذي فقد السيطرة وأصبح يبكي كالأطفال موجوعًا على وطن لم يكن يومًا له وعلى مستقبل مجهول قاتم، في حين تريد جوليا أن يكون لأبنائها كما أبناء كلّ السياسيين وليس لأبنائه.
الفنانة اللبنانية لم تشاهد عبر تلفازها الفاخر إلا ترامب الذي أشعل فجأة أحاسيسها القومية الغافية بعدما قطعت بث كلّ ما يوصلها بشعبها، لتتحوّل فجأة إلى فلسطينية ناصرية مقاومة، ومن يتنكر لوطنه كيف يصدق الفلسطينيون أنه يناصر بقضيتهم؟
كلنا ننبض حبًا لفلسطين ونرفض صفقة المعتوه ترامب، لكن هل يعقل أن نرمي بعرض الحائط كل المعاناة اللبنانية لأجل أن ننشر علمًا فلسطينيًا طالما متنا لأجله مختارين لكنه ليس خيارنا قبل علم الأرزة الخضراء، الذي لن يصبح ثانيًا شاء من شاء وأبى من أبى، أو أن جوليا اعتادت على أجواء السياسيين من كثر اختلاطها بهم فأصابوها وأصبحت مثلهم تنتمي للأوطان كلها ما عدا لبنان؟
مطربة الشعارات المزيفة خسرت احترام شعبها بعدما كان يصنّفها من المقدسات الفنية التي لا تُمس ليتعرض لأكبر خديعة فنية، وهذه الحقيقة ظهرت جليًا بعدما كتب المئات عبر صفحاتها يهاجمونها لكنها لم تحظر أحدهم سوى الصحافيين العاملين في (الجرس) الذين تعلّموا دائمًا وأبدًا من رئيسة التحرير نضال الأحمدية أن يكتبوا الحق ولو قُطعت رقابهم وأن يرفضوا أي عملية تزوير أو مشاركة فيها. نحن لا نساير ولا نجامل أحدًا، ولا نسمح للمنافقين والمنافقات أن يمثلوا على الرأي العام بهدف تضليله، وبكل الحالات، اللبناني أصبح أكبر وأوعى من أن تضحك عليه واحدةٌ كجوليا.
عبدالله بعلبكي – بيروت